فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

الآيات: (1- 6) [سورة الناس (114): الآيات 1- 6]
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
التفسير:
كان العياذ في سورة (الفلق) بربّ (الفلق)، أي رب المخلوقات جميعها..
وهنا في سورة الناس، يأتى الأمر بالاستعاذة، بربّ الناس، من الناس، وهم بعض ما خلق اللّه سبحانه وتعالى.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى في هذه السورة، بثلاث صفات: أنه سبحانه {رب الناس} أي مربيهم، والقائم عليهم بعد خلقهم.. وأنه جلّ شأنه: {مَلِكِ النَّاسِ} أي مالك أمرهم، وباسط سلطانه عليهم، وأنه سبحانه: {إِلهِ النَّاسِ} أي سيدهم، وهم عبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، بماله من سلطان عليهم..
وقد يقال: إن صفة الألوهية يقوم لها السلطان المطلق على المألوهين من غير داعية إلى ربوبية، أو ملك.. فما داعية ذكر الربوبية والملك هنا؟
والجواب- واللّه أعلم- أن ذكر الربوبية بيان لفضل اللّه وإحسانه على عباده، وأنه لم يملكهم إلا وقد خلع عليهم خلع الربوبية، فرباهم، ونشّأهم،
وأمدّهم بكل ما هم في حاجة إليه.. فملكهم بإحسانه وفضله، قبل أن يملكهم بجبروته وقهره.. وفى ذكر الملك، إشارة إلى أن اللّه سبحانه إنما يربّى ما يملك، ويتصرف فيما هو له..
فإذا قامت الألوهية على الناس بعد هذا بسلطانها، لم يكن هذا السلطان سلطان قهر وجبريّة، وإنما هو سلطان فضل وإحسان، سلطان المالك فيما ملك.
وقد جاءت هذه الصفات الثلاث للّه سبحانه على هذا الترتيب: الربوبية فالملك، فالألوهية، لتكشف عما للّه سبحانه في الناس من سلطان متمكن، قائم على العدل والإحسان.. فهو سبحانه المربّى والمنشئ لهم.. وقد يربّى المربّى، وينشّئ المنشئ ولا يملك ما ربّاه ونشّاه.. ولكن اللّه سبحانه، هو المربى، وهو المالك لما يربى.. ثم إنه قد يربى المربى، ويملك ما يرّبيه، ولكن لا يقوم له سلطان متمكن على ما يربيه ويملكه، فقد يخرج عن يده لسبب أو لآخر.. ولكن اللّه سبحانه هو المربى والمالك لما يربى، والإله القائم بسلطانه المطلق على ما ربّى وما ملك! وفى تخصيص الناس بالاستعاذة منهم، وفى جعل هذا في سورة خاصة بهم تسمى سورة (الناس)- في هذا إشارة إلى أن الناس، من بين المخلوقات التي يعرفونها، هم الذين يفعلون الشر، بما ركب فيهم من إرادة عاملة، قادرة على أن تتجه نحو الخير، أو الشر..
فكل مخلوق- فيما يرى الإنسان ويعلم- قائم على فطرة، لا يتحول عنها، ولا يأخذ طريقا غير طريقها الذي أقامها اللّه سبحانه وتعالى عليه.
ومن هنا، ترى جميع المخلوقات، التي تعايشنا على هذه الأرض تحكمها طبيعة واحدة، في كل جنس من أجناسها، أو نوع من أنواعها فأفراد الجنس الواحد، أو النوع الواحد، كلها على طريق سواء، في حياتها، لا يختلف فرد عن فرد، ولا تشذّ جماعة عن جماعة، في أي مكان وأي زمان..
فالنملة الواحدة، هي النمل جميعه، والنحلة الواحدة، هي النحل كله، والغراب الواحد، هو الغربان جميعها، والذئب الواحد، هو الذئاب كلها..
وهكذا، كل فرد في جنسه، يحمل تاريخ الجنس كله، لا تحتاج في التعرف على هذا الجنس إلى أكثر من التعرف على فرد منه.. في أي مكان وفى أي زمان.
ومن هنا كان من الممكن رصد الشرور الناجمة من بعض الحيوان، والعمل على توقّيها، وأخذ الحذر منها.. فإنه إذا عرف الشرّ أمكن توقّيه، وسدّ المنافذ التي ينفذ منها..
وليس كذلك الإنسان.. فكل إنسان عالم وحده، له وجوده الذاتي، وله عقله، وإدراكه، وتصوراته، ومنازعه، وخيره، وشرّه.. وهيهات أن يلتقى إنسان مع إنسان لقاء مطابقا في جميع الوجوه، ظاهرا وباطنا..
ولهذا فإنه لا يمكن رصد شرور الناس، بل إنه لا يمكن رصد شرّ إنسان وأحد، ولا رسم الحدود التي يقف عندها.. ومن هنا كانت الاستعاذة من الناس، على هذا الوجه الخاص، لأن الشرور التي تقع منهم، بل من أي وأحد منهم، كثيرة لا تحصى، متعددة متنوعة، لا تحصر.. ولعل هذا هو بعض السر في تكرار لفظ {الناس} ثلاث مرات في مطلع السورة، فهم ليسوا ناسا وحسب، بل هم ناس، وناس، وناس.. إنهم في مجموعهم، أخيار، وأشرار، وخليط من أخيار وأشرار.. وهم في أفرادهم: خير، وشر، وخليط من الخير والشر..
فالإنسان يحسن، ويسيء، ويقف موقفا بين الإساءة والإحسان.
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هو بيان للمستعاذ منه، برب الناس، ملك الناس، إله الناس..
والوسواس الخناس: هو ما يطرق الإنسان من وساوس وظنون، مما تسوّل له به نفسه، من منكرات، وما يزين له به إخوان السوء، وما يغريه به أهل الضلال من مفاسد، وآثام..
وتسمية هذه الطوارق المنكرة، وتلك الواردات المضلّة، بالوسواس، لأنها تدخل على الإنسان في مسارّة ومخافتة، وتلقاه من وراء عقله، وفى غفلة من ضميره.. إنها توسوس له، وتهمس في صدره، دون أن يحضرها عقله، أو تشهدها حواسه..
وهذا واضح إذا كان هذا الوسواس من ذات الإنسان نفسه، ومن نزغات شيطانه.
أما إذا كان هذا الوسواس من شيطان من شياطين الإنس، فإن الوسوسة تكون بينه وبين من يوسوس له، بمعزل عن أعين الناس، وعن أسماعهم، حتى لا يروا ولا يسمعوا هذا السوء الذي يوسوس به، ولا هذا المنكر الذي يدعو إليه..
وهكذا المنكرات والآثام، لا يدعى إليها علانية، كما لا يأتيها مقترفوها علانية.. إنها لا تتمشّى إلا في الظلام، ولا يلتقى بها أصحابها المتعاملون بها- من داعين بها ومدعوين إليها- إلا في تلصص ومسارقة..
وفى وصف الوسواس بالخناس إشارة إلى أنه يخنس، أي يغيب شخصه ويتلاشى وجوده، وهو يؤدى مهمته بما يوسوس به، فلا يرى المستمع له ظلا لشخصه، ولا يحسّ وجودا لذاته، وإنما الذي يتمثل له في تلك الحال هو شخوص ما يوسوس له به، ووجوه ما يدعو إليه.. فالموسوس- لكى يؤدى دوره على أتمّ وجه- ينبغى أن يغيب شخصه، وأن يختفى وجوده، حتى يخلى المكان لما يوسوس به، فلا يشغل الموسوس إليه بشيء عنه، ولا يتمشى في صدره شيء غير تلك الوسوسة..
وفى قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} وفى جعل الوسوسة في الصدور، مع أنها تكون في الآذان- إشارة إلى أن هذه الوسوسة إنما تتدسس إلى الصدور، دون أن تشعر بها الآذان، وأنها لا تحدث أثرها السيّء إلا إذا أخذت مكانها من الصدور، أي القلوب، ووقعت منها موقعا.. على خلاف الآذان، فإن كثيرا من وساوس السوء تطرقها، ثم لا تجد لها من أصحابها أذنا صاغية، فتسقط ميتة، وتدرج في أكفان الريح! وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (من) هنا بيانية، تكشف عن وجه الوسواس الخناس، وهو أنه إما أن يكون إنسانا، أو شيطانا.. من عالم الإنس، أو عالم الجن..
والوسواس الخناس- كما قلنا- كائن لا يكاد يرى شخصه، حين يوسوس، حيث يتدسس إلى من يوسوس إليه خفية، ويدخل عليه من حيث لا يشعر..
ولهذا جمع اللّه سبحانه وتعالى بين الوسواس من عالم الإنس، والوسواس من عالم الجن.. فالإنسان الذي يوسوس للناس بالسوء، ويغريهم به.
هو شيطان، في خفاء شخصه، وفى عداوته للإنسان، وفيما يحمل إليه من شر، وإن على الإنسان أن يحذر هذا الوسواس من الناس كما يحذر الشيطان..
وعبّر عن الشيطان هنا بلفظ الجن، للدلالة على خفائه، وعدم إمكان وقوع العين عليه، وإن كان له لمة يعرفها المؤمن، ونخسة يشعر بها، ويعلم أنها من وارداته..
وعالم الجن، أو الشيطان، وإن يكن غير منظور لنا، فإن علينا الإيمان به، وأنه يعيش معنا على هذه الأرض، ويرانا من حيث لا تراه، كما يقول تعالى عن الشيطان: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} (27: الأعراف) وهذا العالم غير المرئي، هو عدوّ لنا، متربص بنا، أشبه بجراثيم الأمراض التي لا ترى بالعين المجردة، وإن كان يمكن رؤيتها بأجهزة خاصة، كما يمكن أن يرى الشيطان لكثير من المؤمنين بعين البصيرة لا الإبصار، فلنحذر هذا العدو الراصد، كما نحذر الوباء، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (6: فاطر) وإنه ليس علينا أن نبحث عن كنه الشيطان، ولا عن حياته الخاصة في عالمه، ولا عن طعامه، شرابه، ونزاوجه، وتوالده.. وإنما الذي علينا أن نعلمه، هو أنه عدوّ غير مرئىّ لنا، وأنه يتدسس إلى مشاعرنا، ومدركاتنا، وعواطفنا، ويحاول جاهدا أن يؤثر فيها، وأن يخرج بها عن جادّة الحق والخير، إلى طريق الغواية والضلال، فيزين لنا الشر، فنراه خيرا، والضلال، فتراه هدى! والشيطان، ليس هو النفس الأمارة بالسوء، كما يرى ذلك بعض الناس، وإنما هو كائن له وجوده المستقل خارج العالم الإنسانى، وله حياته الخاصة، شأنه في هذا شأن الكائنات والعوالم غير المرئية التي تعيش معنا، كالجراثيم، والهواء، بل والإنسان الذي يلبس ثوب الوسواس.. فإنه شيطان غير مرئى.
وهو- أي الشيطان- مخاطب خطابا مستقلا من اللّه سبحانه وتعالى، كما هو شأن الإنسان، وهو محاسب، ومجازى على ما يعمل، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا.. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} (64- 65 الإسراء) ويقول سبحانه: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقول غُرُورًا} (112: الأنعام).. ويقول جل شأنه: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا} (6: الجن).. وقد سخر اللّه بعض الجن لسليمان- عليه السلام- كما سخر له الريح.. فقال تعالى: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} (82 الأنبياء) وقال سبحانه: {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} (13: سبأ).
فالشيطان أو الجن، عالم غير منظور، يقابل عالم الإنسان المنظور، وبين العالمين احتكاك أشبه بالاحتكاك الذي يقع بين الإنسان والإنسان، وفى احتكاك الإنسان بالإنسان يتولد خير وشر.. أما احتكاك الشيطان بالإنسان، فلا يتولد منه إلا شر محض.. كما يتولد الشر من احتكاك الإنسان بالإنسان في مجال العداوة والبغضاء.. وليس بين الشيطان والإنسان إلا عداوة دائمة متصلة، وليس يرد على الإنسان من الشيطان إلا السوء الخالص، والشر الصريح، كما يقول سبحانه.. {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ}. (6: فاطر) فاللهم احفظنا من وساوس النفس وأهوائها، ومن كيد الشيطان وزغانه، واجعل لنا من لدنك وليّا، واجعل لنا من لدنك نصيرا، حتى نستقيم على طريقك القويم، ونبلغ بعونك وتوفيقك ما يرضيك عنّا، ويدخلنا في عبادك الصالحين في الدنيا والآخرة..
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}. {رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ أماما}.
وصلّ اللهم وسلم على محمد، نبيك ورسولك، الرحمة المهداة، والنور المبين، الذي اهتدينا به، وبما تلاه علينا من كتابك الكريم، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله. وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، فاتحة بدء، وحسن ختام.
هذا، وكان غاية هذه الرحلة المباركة في رياض كتاب اللّه، وفى صحبته، تلك الصحبة المسعدة المتصلة مع آياته، آية آية، ومع كلماته، كلمة كلمة، حتى استوفت القرآن الكريم كله- كان ذلك صباح يوم الخميس المبارك، لتسعة عشر يوما خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف، من هجرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، الموافق لليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة ألف وتسعمائة وسبعين ميلادية..
وعلى زاد هذه الرحلة المباركة، نعيش ما بقي لنا من أجل، ومن جنى ثمارها الطيبة المباركة، نعطى مما في وسعنا، وننفق مما في أيدينا.. نبتغى بذلك وجه اللّه، وحسن المثوبة، وكريم الشفاعة من كتاب اللّه، ومن رسول اللّه، فهما وسيلتي إلى اللّه، أرجو بهما خير الدنيا، وحسن ثواب الآخرة: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوُّذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوّذ من شرور مخلوقات خفيّة وهي الشياطين.
والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره من سورة الفلق سواء.
وعُرِّف {رب} بإضافته إلى {الناس} دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُلْقون الشر ومن يُلْقَى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمَولى العبد: يا مولَى فلان كُف عني عبدك.
وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبًا مدرَّجًا فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بيانًا بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضًا وحاكمية بعضهم في بعض.
وفي هذا الترتيب إشعار أيضًا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادئ ذي بدء بأن له ربًا يسبب ما يشعُر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيَشعر بأن ربه هو المَلِكُ الحقُّ الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم.
و{ملك الناس} عطف بيان من {رب الناس} وكذلك {إله الناس} فتكرير لفظ {الناس} دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإِظهار ليكون الاسم المبيِّن (بكسر الياء) مستقلًا بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علَم للاسم المبيَّن (بالفتح).
و{الناس}: اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق.
و{الوسواس}: المتكلم بالوسوسة، وهي الكلام الخفيّ، قال رُؤبة يصف صائدًا في قُتْرتِه:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخلصًا ربَّ الفَلَقْ

فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازًا على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عُروة بن أذينة:
وإذا وجَدْت لها وسَاوِسَ سَلوَةٍ ** شفَع الفؤادُ إلى الضمير فسَلَّها

والتعريف في {الوسواس} تعريف الجنس وإطلاق {الوسواس} على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفُس الناس الخواطر الشريرة، قال تعالى: {فوسوس إليه الشيطان} [طه: 120]، ويشمل الوسواسُ كل من يتكلم كلامًا خفيًا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراءٍ بالضلال والإِعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سِرًا لئلا يطلع عليها من يريدون الإِيقاعَ به، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذِيَّتِهِ.
و{الخناس}: الشديد الخنْس والكثيرُه.
والمراد أنه صار عادة له.
والخنس والخنوس: الاختفاء.
والشيطان يلقب بـ: {الخناس} لأنه يتصل بعقل الإِنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنَّه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خنّاسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم.
فالتعريف في {الخناس} على وزاننِ تعريف موصوفه، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللّوامة، أو يزَعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها، فكأنَّ الشيطان يبدو له ثم يختفي، ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور.
ووُصِفَ {الوسواس الخناس} بـ: {الذي يوسوس في صدور الناس} لتقريب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها، وذلك بأن بُيِّنَ أنَّ مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبّر بها عن الإِحساس النفسي كما قال تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] وقال تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} [غافر: 56].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإثم ما حاك في الصدر وتردَّد في القلب». فغاية الوسواس من وسوسته بثّها في نفس المغرور والمشبوككِ في فخّه، فوسوسة الشياطين اتصالاتُ جاذبيه النفوس نحو دَاعية الشياطين.
وقد قرَّبها النبي صلى الله عليه وسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها: «أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإِنسان» وشبهها مرة بالنفث، ومرة بالإِبْسَاس.
وفي الحديث: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما».
وإطلاق فعل {يوسوس} على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإِنسان. وأما إطلاقه على تسويل الإِنسان لغيره عملَ السوء فهو حقيقة.
وتعلّق المجرور من قوله: {في صدور الناس} بفعل {يوسوس} بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كلِّ من فعل {يوسوس} ومتعلِّقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز.
و{مِن} في قوله: {من الجنة والناس} بيانية بينَتْ {الذي يوسوس في صدور الناس} بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته، ومجازه إلى صنفين: صنف من الجنّة وهو أصله، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول، وجمَع الله هذين الصنفين في قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا} [الأنعام: 112].
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاءُ ما ينجرّ من وسوسة نوع الإِنسان، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرًا وهم بالتعوذ منهم أجدر، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.
ولا يستقيم أن يكون {من} بيانًا للناس إذ لا يطلق اسم {الناس} على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبْعَدَ.
وقُدم {الجنة} على {الناس} هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوًا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] لأن خُبثاء الناس أشد مُخالطة للأنبياء من الشياطين، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره، قال تعالى: {وإذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماركين} [الأنفال: 30] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.
والجنة: اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال: إنسيّ للوأحد من الإِنس.
وتكرير كلمة {الناس} في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى وأحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى: {يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} [آل عمران: 78].
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله: {في صدور الناس} فهو إظهار لأجل بُعد المعاد.
وأما تكريره المرة الرابعة بقوله: {من الجنة والناس} فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس، وذلك غير ما صَدْق كلمة {الناس} في المرّات السابقة.
والله يكفينا شر الفريقين، وينفعنا بصالح الثقلين.
تم تفسير (سورة الناس) وبه تم تفسير القرآن العظيم.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور: قد وفيتُ بما نويت، وحقق الله ما ارتجيتُ فجئتُ بما سمح به الجُهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته، مما اقتَبس الذهنُ من أقوال الأيمة، واقتدح من زَنْد لإِنارة الفكر وإلهاب الهمّة، وقد جئتُ بما أرجو أن أكون وُفِّقْتُ فيه للإِبانة عن حقائقَ مغفولٍ عنها، ودقائق ربما جَلَتْ وجوهًا ولم تَجْلُ كُنْهًا، فإن هذا مَنَال لا يبلغ العقلُ البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاءُ دون مَرامِهْ.
وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يُخدم سَعيا علي الرأس، وما أدَّى هذا الحقَّ إلاّ قلَم المفسر يسعَى على القرطاس، وإن قلمي طالما استَنَّ بشوط فسيح، وكم زُجر عند الكَلاَلِ والإِعْيَاءِ زَجْر المَنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حَقَّ له أن يستريح. اهـ.